|


فهد عافت
بهلوانيّة الشعر وكونيّة المتنبّي!
2017-03-19

 

منذ سنوات، والمزاج العام عند الناس ينسحب من الشعر إلى الرواية، ليست ظاهرة خاصّة في مجتمعاتنا العربيّة، هي فقط تأخّرت قليلاً؛ لأن المزاج العام لكل شعوب العالم، انسحب قبلنا بكثير لعالم القصص والروايات على حساب الشعر. 

 

- ليس الأمر سيئاً ولا يدعو لتَمَلْمُلٍ أو حسرة، المسألة مسألة مزاج عام، والفنون أيضاً دُوَلٌ، والدُّوَل أيام!، 

 

- في وقتٍ ما يُمكن للشعر أن يعود لمكانته وأن يتصدّر، وهو على أيّ حالٍ طغى وأخذ نصيبه من المجد وصدارة المشهد في كل أمّةٍ من الأمم، ولا بأس من تقدّم فنون وآداب أخرى عليه فترةً من الزمن، وعليهِ أن يُجدِّد نفسه، وأن يُقدِّم نماذج وأشكالاً جديدة وأكثر حيويّة،..

 

- ميزة الشعر حتى في نماذجه الرديئة، أنه مصحوب بإيقاعات وأوزان وموسيقى وقفلات بهلوانيّة!، الأمر الذي يسمح له دائماً بتقديم صباحات ممتعة وأمسيات فكهة حتى في أحزانها!،..

 

- وعلى الرغم من قدرة الشعر على التواجد في كافّة أشكال الكتابة الأخرى كالرواية والقصة والمسرحيّة وحتى الخاطرة الأدبية أو الخطبة أو المحاضرة، حتى إنه لا تكاد تخلو كتابة أدبية فنيّة من روح الشعر، في سطر أو جملة على الأقل، يحدث ذلك بقليل من التحايل، وبالتنازل عن قِشرة الوزن والموسيقى المحكومة بالرياضيّات وبإهمال لاعبة السيرك الرشيقة: القافية!، الأمر الذي يؤكد بقاء الشعر واستحالة خروجه من المشهد الأدبي الإنساني، إلّا أن القصيدة وليس الشعر، هي التي تُعاني جفوة الناس وتخشى فراقهم لها!،..

 

- الشعر شيء والقصيدة شيء آخر!، القصيدة أجمل وأطيب وأرحب بيوت الشعر، يمكن القول إنها بيته الرئيسي والحقيقي المُصمّم له خصيصاً!،..

 

- الشعر في القصيدة مثل الإنسان في بيته، والشعر في بقية الفنون الكتابيّة ضيف!،..

 

- في القصيدة، لا يكمن السحر فقط في الموسيقى الحاسمة ولا في القافية الحرّاقة البرّاقة، لكن أيضاً في مساحة الشطر والشّطرين أو المقطع الشعري القصير بطبيعته، والذي من أسراره الباهية أنه مُنغلقٌ على نفسه ومنفتحٌ على ما قبله وما بعده من أبيات وأشطُر ومقاطع في نفس الوقت!، 

 

- هذا الانغلاق المُنفتح، أو الانفتاح المُغلق، له جمالياته الفنيّة والعاطفيّة الكبيرة، من جمالياته الفنيّة أنه محكوم بالكثافة، بضرورة الكثافة، سأتجرأ وأقترح وصفاً أظنه أدق: بالتّغييم!، بتحوّل كل شطرين أو مقطع إلى غيمة يمكن لها أن تتشكّل حسب الهواء والهوى أشكالاً لا متناهية، كل ما على ماء الكلمات أن يتبخّر وأن يرتفع إلى الأعلى حتى يُلاقي ظروف التشكل كغيمة فيتشكّل!،..

 

- ومن جمالياته العاطفيّة أنه وعبر بهلوانيّة القافية، يُوسِع صدر متلقّيه بمسامحات جبّارة، الأمر الذي يتيح للقصيدة التنقّل عبر قفزات هائلة من معنى إلى آخر، من موضوع إلى موضوع آخر تماماً، من التغزل في حسناء إلى وصف ناقةٍ إلى هيلمان قصر إلى حنين لأم أو وطن وهكذا!، يمكن لكل هذا وأكثر أن يحدث بفضل الانقطاع، انقطاع القول الشعري عمّا قبله وعمّا بعده، بحِيلة الشطر والقافية، والمقطع!.

 

- أظن أنه يمكن لي شرح الانغلاق المفتوح بصيغة أكثر وضوحاً، إنه يشبه كتابة المقالة على شكل فقرات أو نقاط متلاحقة، تماماً كما تحاول هذه الزاوية أن تفعل الآن وفي مرات كثيرة، إن الشَّرطة الصغيرة قبل كل مقطع من هذه الزاوية مثلاً، الشَّرطة "-"، ليست إلا حيلة من حيَل القصيدة، أستخدمها وقبلي ومعي وبعدي كثير، إنها لا تعني فقط بداية قول جديد، ونهاية قول سابق، لكنها تسمح أيضاً بالقفز، بمحو كثير من العبارات التي يُمكن لها أن تحضر فقط لتربط بين فقرة وفقرة!، فإذا كانت شَرْطة صغيرة مثل "-"، تمنح القفز حضوراً، فما بالك بالبحور والقوافي؟!

 

- لا أستثني إلا الموسيقى من هذه الغَلَبَة، وأكتب: قصيدة الشعر هي أقرب الأشكال الفنيّة والأدبيّة إلى الكونيّة!، الذين لم يجدوا في المتنبّي غير المدح، عميان قلب!، روائع المتنبّي كونيّات، ديوان المتنبّي يكاد يكون أعظم مثالٍ حيّ وخالد على القصيدة الكونيّة، على الأدب الكونيّ!.

 

- بالمناسبة: يوم مات أبو تمّام ظن الناس أن الشعر قد طُوِيَ، والحقيقة أن مدّه انحسر فعلاً، انحسر كثيراً، لكن بعد موت الطّائيّ الفخم هذا بسبعين سنة، جاء أحمد بن الحسين وقَلَبَ الدنيا: كأساً على رُطَب!.