|


صالح الخليف
لا تخلع عقالك
2017-08-08

أطلق عليه الاسم الذي يناسبك ويناسبه.. اعتبره جهالة أو حماقة أو أحد أنواع مرض الغباء.. اعتبره صراع ثقافات أو صدام حضارات.. اعتبره أي شيء يمكن أن يضعه في مكانه الصحيح.. اعتبره مفردة هياط تفلتت من سياقها.. أما أنا فعجزت وفشلت وتعبت وأخفقت وخارت قواي.. وهنت عظامي واشتعل رأسي شيباً ولم أبلغ أو أصل إلى كلمة تشرح وتبين ما أسمعه وأراه.. وإذا كان عندك الوصفة المناسبة فساعدني وانتشلني وأنقذني.. وأكن لك من الشاكرين..

 

كثيراً ما وقعت أنظاري ولامست مسامعي صوتاً وصورة على الشاشة يقول صاحبها "أرفع لك العقال".. إمعاناً وإفراطاً في المودة والإعجاب والتقدير.. يقولون هذه العبارة استنساخاً واتباعاً واحتذاء وتشبهاً ومحاكاة لطقوس إنجليزية عتيقة في رفع القبعة.. وهذه وربي هي المصيبة والكارثة بكل قوتها وقواها.. هي النكبة والنكتة المضحكة المبكية.. ضحك كالبكاء.. بكل ثقة حدودها الفضاء كله يتحدث ويقول أرفع لك العقال..!!.

 

الإنجليزي جورج بروميل، الذي يعد أحد أسياد الأناقة عبر التاريخ.. كان يكره الملابس الداكنة والغامقة وكان يقول: "هذا رجل عجوز.. ألا ترى ملابسه داكنة".. وكانت الملابس الزاهية ذات الألوان الفاتحة في أيامه تبدو أقرب للأمزجة النسائية.. كان بروميل المولود عام 1788 رجلاً غريب الأطوار والطبائع والهوايات والاتجاهات.. لم يكن يهتم بشيء كما يهتم بالملابس.. إذا كان بعض الناس يعيش ليأكل فإن بروميل عاش ليصمم ويفصل ويلبس.. يقول: "أحب الفستان الذي تبدو فيه المرأة كأنها هربت من حريق وإنما اختارت الفستان الخطأ.. هذا الاضطراب وهذا الفزع واليأس يثيرني تماماً".

 

هذه الشخصية العجيبة هي من ابتدعت ارتداء القبعة العالية.. ارتداها ثم انتشرت كالنار في الهشيم.. وأصبحت موضة صارخة غزت أوروبا كلها.. وكان الرجل إذا ارتدى قبعة من هذا النوع وأراد إلقاء التحية على من يقابله فيبادر لخلعها احتراماً وتقديراً..

 

القبعة تعطي من يرتديها طولاً إضافياً.. فحين يخلعها وكأنه يقول لمن أمامه إنني أتواضع وأبدو أقصر قامة في حضورك.. هذه هي حكاية خلع قبعة بروميل..!.

 

أما خلع العقال وإنزاله فهي طقوس ليست متوارثة أو منتشرة كثيراً عند أهل البادية.. تمارس في نطاق ضيق للغاية... اترك ما تراه في المسلسلات البدوية.. هذه كلها سواليف علاقتها بالتاريخ والواقع مثل علاقة بروميل بالمرجلة.. المسلسلات البدوية يملؤون فيها دلالهم بالبيبسي كما يقول أحد الممثلين..!!.

 

خلع العقال يعبر في الموروث الصحراوي عن مطلب صعب المنال أو جاهة أو وساطة أو شفاعة... من يخلع وينزل عقاله يريد أن يقول لمن أمامه إنني في أمس الحاجة إلى مساعدتك وفزعتك وأنتظر يدك تمتد إلي وتحقق مرادي.. ما أوسع الفرق بين قبعة بروميل، وبين خلع العقال في إرث وتراث العرب..

 

العقال يخلع أيضاً في الاشتباكات و"الهوشات" والنزاعات التي تستخدم فيها الأدوات الحادة والآلات الثقيلة.. بعض الآباء ضربوا أبناءهم بالعقال.. وبعض الرجال ضربوا زوجاتهم بالعقال.. وبعض المدرسين ضربوا تلاميذهم بالعقال.. إذا خلع العقال أحياناً فهناك ضحية تتعرض للاعتداء الجسدي والمعنوي والنفسي. أما العقال الذي يخلع حباً وتقديراً واحتراماً فهذا لا نعرفه ولا نريد التعرف عليه..

 

إذا سمعت أحد أصحابنا يتكلم عن خلع العقال مرة ثانية فتذكر على الفور أن سقراط قال في إحدى الليالي: "الجهل هو السر الوحيد في العالم"..

 

وتذكر أن قبعة بروميل خلعت من فوق الرؤوس كثيراً.. أكثر من جهل يخيم على رؤوساً أينعت ولم يحن معرفة أسرارها!!.