|


صالح الخليف
خلف جهاز المطار
2017-08-10

في إحدى حلقات طاش ما طاش القديمة، تناول عبدالله السدحان وناصر القصبي برنامج حروف الذي كان يقدمه الراحل ماجد الشبل.. سأل المذيع عبدالله السدحان عن هوية زعيم الفن المصري عادل إمام؛ فأجاب السدحان: "واحد ينكت" أو فيما معناه.. هذه الإجابة تعكس بطريقة أو بأخرى ما يستقر في الأذهان طويلاً عن الكوميديين.. الوجوه الفنية الكوميدية اصطدمت بما يطلبه المشاهدون.. الذين يجلسون أمام التلفزيون يتابعون ممثلاً كوميديًّا، يطلبون منه في عقولهم الباطنة إضحاكهم حتى تبدو نواجذهم.. انعكست الحالة على الفنانين أنفسهم؛ فظنوا إثمًا وعدوانًا أن دورهم زرع الضحكات على وجوه الناس وبأي طريقة وبأي شكل وأي ثمن.. 

 

هذه الحالة المستعصية على الفن التي يفترض أن يتعاطى معها كل من هم على ميمنته ومن هم على ميسرته.. السواد الأعظم من فناني وممثلي الخليج يتحولون فجأة وبلا مقدمات وبلا إنذار أو خبر، إلى جوقة من المهرجين الذين وقعوا في الفخ.. قال لهم الناس أضحكونا فأعجبتهم السالفة واستمروا في إضحاك الناس عليهم.. هذا ما حدث باختصار.. هناك رجل واحد قال لا.. نعم معه آخرون يشبهونه شكلاً ومضمونًا، لكنه للأمانة هو الوحيد الذي قالها بوضوح ودون تردد.. 

 

هذا هو عبدالحسين عبدالرضا.. ضجت مواقع التواصل الاجتماعي طوال يوم أمس تلهج له بالدعاء.. يرقد مصارعًا المرض في واحد من مستشفيات عاصمة الضباب البريطانية.. يبدو أن لندن هي الأخرى عند حسين لها حسابات لا تغادر الذاكرة.. قدم مسرحية "باي باي لندن" في مطلع الثمانينيات.. قصة تحكي عن ثري كويتي ذهب والتهى بالملهيات.. مسرحية شكلت منعطفًا تاريخيًّا حول الفكر الدرامي المسرحي الخليجي.. لم تكن أبدًا خالية من نقد الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية في العالم العربي.. تغرق جميع أعمال حسين بتلك الإشارات.. 

 

الذي أدمن متابعة هذا العملاق ربما يستشعر كيف هي علاقة حسين عبدالرضا بالعمقين السياسي والإنساني.. أيضًا الذي يتابع حسين يعرف الحقيقة المطلقة التي نريد الوصول إليها.

 

وحده عبدالحسين عبدالرضا الذي يقدم أدواره وكأنه في بيته أو ديوانيته أو محاط بأصدقائه ومعارفه.. نادرًا ما يتغير هندامه وتتبدل ملابسه في كافة أعماله من درب الزلق وحتى أبو الملايين.. لعب دور الإسكافي وطبيعة المسلسل كانت تجبره على ارتداء الزي التراثي العربي القديم.. العمل كوميدي يعالج ظاهرة التسلط من الطبقة الدنيا للحاكم.. قصة عميقة ومعبرة.. لعب حسين دور الوالي الذي يحكم بالحق والقوة والحكمة.. ودور الإسكافي الفقير الذي بالكاد يجد قوت يومه.. بين الدورين قدم عبدالحسين أروع وأعظم ما قدمه طوال عمره الفني المديد.. عكس وبامتياز شخصيته وطبيعته ونكتته الحاضرة على الإسكافي.. فظهر العمل لا يختلف عن حسين الذي يعرفه عشاقه وجمهوره ومحبوه ومتابعوه.. البقية تنتصر عليهم الشخصية إذا لم تستطيع تجسيد الدور كما أريد له.. حسين يمشي على الطرف الآخر.. كل الأدوار التي لعبها إنما هي نسخ مستنسخة بعضها من بعض.. لا يهرج ولا يقلد ولا يحتاج إلى قناع أو باروكة أو ماكياج أو أسنان مركبة أو شارب أو ذقن.. لا يحتاج سوى عقل يستحضره ثم تشتعل الأنوار وتشتعل معها الكوميديا التي لا تصبح حفلة من التكلف والتنكر من أجل إضحاك الحزانى.. يرقد عبدالحسين عبدالرضا في المستشفى.. وكم من قلب وفؤاد وأعين أضحكها وأقحم البهجة على محياها تمنت له الشفاء العاجل..

 

وكم بعثت هذه القلوب إلى لندن رسالة قصيرة مفادها أن الضباب بالفعل خيم أمس على أجوائك وسمائك لأن "أبو عدنان" يرقد على أحد أسرتك القاسية.. يروي أحد الأصدقاء قصة شاهدها على الطبيعة يقول: "صادفت حسين عبدالرضا وابنه عدنان في مطار الكويت وكانا مسافرين؛ فتعدى حسين جهاز التفتيش ولحقه ابنه، لكن الجهاز أضاءت أنواره الحمراء؛ فطلب العسكري من عدنان العودة مرة أخرى فخلع حزامه ومرة أخرى رن الجهاز؛ فتكرر المشهد وعاد عدنان مرة ثالثة فأضاء الجهاز، فقال حسين عبدالرضا موجهًا السؤال لابنه: أنت مفطر مسامير"!!..

 

هذا هو فنانكم الأول يا أبناء الخليج.. فنان خلف الكاميرا وخلف السرير وخلف الشاشة.. وخلف جهاز المطار!!.

 

شفاك الله وعافاك يا حبيب