|


No Author
صديقي "نتشوي" - طلال الحمود
2017-08-13

راجت خلال الأشهر الماضية مقاطع فيديو لأحد المبتعثين، يتحدث فيها عن استغرابه من قرار وزارة الخدمة المدنية بتعيينه في قرية "الربوعة" بعد عودته من أمريكا، حاملاً شهادة علمية ممهورة بختم إحدى جامعاتها!.

 

ويسرد هذا العائد من بلاد "العم سام" تفاصيل تعرضه إلى ما أسماه "صدمة ثقافية"، بالانتقال من أمريكا إلى هذه القرية الصغيرة، مطالبًا الوزارة بتعيينه في مدينة كبيرة حتى يستطيع اختزال الفارق الكبير بين الثقافتين، وردم الهوة الحضارية بتناول شطائر الـ" سمول كاميل ليفر" التي تقدمها "بوفيات" الرياض وجدة!.

 

هذا المبتعث قال كلمته في برنامج الثامنة ذات مرة ومضى، وربما لن يستضيفه داود الشريان مجددًا لنعرف تطورات حالته، ومن المرجح أن هناك بعض المصابين بهذه الحال أو الناجين منها، الذين يتعافون في مطاعم الـ "كنتاكي"، أما نحن يا من عاصرنا "ساعي البريد" وطاردناه دهرًا؛ من أجل طابع يحمل صورة لاعبة تنس، فنستبعد أن يتعرض شاب في هذا الزمان إلى "صدمة حضارية"، بوجود وسائل التواصل الاجتماعي، والإنترنت بكل ما فيها من تقنيات تجعل شبان "الربوعة" وضواحيها يشاهدون ويتفاعلون على مدار الساعة مع أدق تفاصيل حياة "كيم  كارديشيان"!.

 

وليس بعيدًا عن معاناة هذا المبتعث الذي يرفض العودة إلى القرية، ويدعي "هياطًا" أعراض الصدمة، نجد أن هناك حالاً أشد وطأة تتمثل ببعض الشبان أصحاب الحصيل الثقافي الجيد، الذين يخرجون من القرى والأرياف لمخالطة نظرائهم في المدينة، ومع أن أكثرهم لا يقل تحصيلاً معرفيًّا، إلا أنه يحاول في زيارته الأولى تبني آراء ضد الثقافة المحلية تثير السخط بحثًا عن لفت الأنظار والتأكيد على صدمته الحضارية.. وغالبًا تجد هذا "المصدوم" يحمل معه أينما حل وارتحل نسخة "مهربة" من كتاب لعبد الله القصيمي أو مرددًا عبارة: "أحب الملحدين ولست منهم"؛ ليترك باب الجدل مفتوحًا مع الآخرين أطول فترة ممكنة!.

 

وغالبًا لن ينجح صاحبنا هذا في إثارة الجدل حوله دائمًا، ما يقوده لوسائل التواصل الاجتماعي والصحف الإلكترونية لإظهار إعجابه بأفكار الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة من خلال "نسخ" المتطرف منها ولصقه في أي مساحة يمكن أن تلصق بها.. ولأن في مجتمعنا الكثير من هواة التصنيف، نجد صاحبنا يستمتع بمجرد تصنيفه تحت لواء العلمانية، أو الماركسية، وغالبًا يطيب له مسمى ليبرالي؛ فتجده لا يعرف من الليبرالية إلا المطالبة بفتح دور السينما ومنح المرأة حق استخدام قدميها في مداعبة "الفرامل والكلتش"!.. وهي عمومًا ليبرالية سعودية أقرب في الحقيقة إلى البوهيمية "العبثية" التي تقتات على الاستخفاف بمكونات الثقافة المحلية من عادات وتقاليد ومعتقدات.

 

أحدهم كتب ذات مرة يتحدث عن مشاكل مجتمعنا المعاصرة، واستشهد بمقولات لنحو عشرين فيلسوفًا من فلاسفة الإغريق، مستفيدًا من مجانية البحث في "جوجل"، حتى تحول المقال إلى قائمة طويلة من الأسماء تجعل القارئ يظن للوهلة الأولى أنها أسماء دفعة جديدة من مستفيدي الدعم السكني في اليونان!.. وغالبًا اختار صاحبنا العودة إلى هؤلاء الفلاسفة؛ تعبيراً عن الصدمة الحضارية التي يعيشها منذ عملية الختان، وتأكيدًا على "نتشويته" التي تجلب الجدل حول شخصه واقتباساته!.

 

في حياتنا اليومية نواجه مثل هؤلاء، وغالبًا نمنحهم المجال للحديث أمامنا أيامًا وأمسيات، حتى نكتشف لاحقًا أنهم "عبثيون" يمتلكون ثقافة واسعة، لكنهم بلا نهج ولا قضية، فتجدهم يبحثون عن إثارة الاهتمام من خلال آراء "بوهيمية" تنال من القيم والمعتقدات، قبل أن يتراجعوا بمجرد نجاحهم في إثارة الجدل ولفت الأنظار إلى أشخاصهم، وليس إلى أفكارهم المبعثرة، لاعتبار أنهم لا يملكون القدرة أصلاً على تحويل تراكماتهم المعرفية إلى فكر يمكن تقديمه أو طرح يمكن تقييمه!.