|


فهد عافت
رأي الفكرة.. ورأي القدرة!
2017-09-26

 

 

‏ـ أُفرِّق بين نوعين من الآراء، أُسمّي كلاً منهما بصِفَته: رأي القُدْرَة، و رأي الفِكْرة!

 

ـ لأتحدث عمّا أعنيه برأي القُدْرة هنا، عليّ أن أحميه من كل ظنّ سيئ، إذ ليس المقصود هنا: النفاق، أو الرأي الخاضع المشغول بتحايلات لغوية، فالنفاق والمداهنة، وحتى المجاملة المتسيّبة، إنما هي ضمن "رأي الفكرة"، هي من ضمنها على ما تحتويه من سوء وتدليس!

 

ـ ذلك أنّ كل ما يبدو أنه نقيض للشيء، هو في الغالب ضمن ذلك الشيء ومتمّم له، وأقول "في الغالب" لأنني أحتاج وقتاً أطول لمراجعة هذا الاعتقاد.

 

ـ رأي القدرة الذي أصفه وأتحدث عنه وأعنيه، ليس العدوّ الطبيعي لرأي الفكرة، لكنه المُرافق له كأنه تنويع موسيقي عليه! و للتوضيح سوف أحاول استدعاء أكثر الأمثلة بساطة:

 

ـ التواصل مع الناس، نيل محبة وكسب صداقة أكبر عدد منهم أمر طيّب: لنعتبر ما سبق رأياً، فما هو تصنيفه؟ بالنسبة لي هذا "رأي فكرة"، وفي داخلي أتبنّاه فعلاً حتى وإن فشلت في تحقيقه، حسناً، فما هو رأي القدرة المقابل لمثل هذا الرأي؟ ظنّي أنه ذلك الرأي الذي أتبنّاه أيضاً، والذي يمكن صياغته على النحو التالي: لا يمكن لي إقامة علاقات صداقة حقيقية في عالم افتراضي.

 

ـ رأيان، الأول أنتجته الفكرة، والثاني أنتجته القدرة، بمعنى أدق: عدم القدرة على تحقيقه: عدم القدرة درجة من درجات القُدْرة!

 

ـ فالصداقة كما أفهمها كفكرة لا يمكن لها المرور بكامل أبّهتها في ثقب إبرة التقنيّة المتوفّرة الآن في عالم شبكات التواصل، والصداقة بالنسبة لي إمّا أن تحضر بكامل أُبّهتها وإمّا أنها ليست صداقة!

 

ـ المثال السابق بسيط ومخفّف، يمكن تصعيده لما هو أهم وأعمق، الكتابة مثلاً لا يمكنها قبول صداقات غير افتراضية من القرّاء: يكتب الكاتب وفي ذهنه قارئ مُحتمَل، قارئ افتراضي، قارئ يدخل في النص قبل ومع وبعد كل فاصلة، قبل أن تتم الكتابة بشكلها النهائي، هذا القارئ لا يخترعه الكاتب ولا يبتكره من وهم، إنه هو الكاتب نفسه، و إلا لماذا يشطب ويغيّر، ويحذف ويضيف؟

 

ـ الصورة الأكثر مثالية، وصحّةً وسلامةً ومُعافاة، للكاتب، هي غيابه التام عن التفاعل المباشر مع ردود الفعل عمّا يكتب، لأنه بعد نشره ما كتب لم يعد إلا قارئاً، و قارئاً أقل إنصافاً وفي الغالب أكثر تحيزاً للكاتب الذي كان هو!

 

ـ يمكن للكاتب متابعة ردود الفعل، دون المشاركة فيها، عليه أنْ تكون ردّة فعله، التي هي مشاركته: كتابة جديدة، ومن خلال هذه الكتابة يغيّر ويوضّح ويحذف ويزيد ويتجدّد،

 

ـ أمّا أن يقفز شاكراً لكل مادحٍ ، أو غاضباً مُنكراً لكل قادح، فهذه مهمّة، ستلهيه عن الكتابة نفسها، وستسحبه من خانة الكاتب إلى خانة الحكّاء الشفهي!

 

ـ صورة الكاتب المثالي بالنسبة لي، لم تتجسّد في كاتب عربي، أكثر من تجسّدها في غادة السّمّان، إذ لم ينل غير قليل من أهل الكتابة شهرتها، وبالرغم من ذلك أبقت نفسها محصّنةً ضد الظهور الإعلامي و"المواصلات العامّة"!

 

ـ يمكن لي تخيّل كل تلك الإغراءات التي صدّتها، تخيّل كل تلك المباهج الصغيرة التي ارتضت بالحرمان منها، مقابل أن تظل كلمتها فعلاً لا ردّة فعل، وأنْ لا تستثمر حضورها الأدبي لمصلحة حضور شخصي، هي حتى حين نشرت مذكراتها ورسائل العشاق، جعلت من حضورها الشخصي حضوراً أدبياً، ولم تعكس المسألة.