|


صالح الخليف
قبل التقاعد
2017-08-16

في آخر أعماله، تناول أسطورة السينما الأسمر مورجان فريمان مشاكل التقاعد والمتقاعدين بطريقة ساخرة وطريفة وكوميدية، عبر فيلم "المضي بأسلوب".. الفيلم يحكي قصة ثلاثة عواجيز، تحاصر كل منهم ضائقات مالية وظروف صعبة وحياة كئيبة، تجعلهم غير قادرين على مواجهة الواقع بما يرضيهم، وعندما ذهب أحدهم لمراجعة البنك للاستفسار عن إنذار وصله بشأن الرهن العقاري، تعرض البنك لعملية سطو قام بها ثلاثة شباب أتقنوا السرقة وهربوا، فيما فشلت محاولات الشرطة في العثور عليهم.. وخيمت فكرة سرقة البنك هذه على خيال العجوز طويلاً، حتى نجح في إقناع الثنائي الآخر بتكرار العملية، واضطروا لطلب المساعدة من أحد الأشرار متخصص في جرائم من هذا النوع.. وأمضى الشاب المجرم قرابة العشرين يومًا في تعليم وتدريب العواجيز الثلاثة على عملية السرقة التاريخية.. وفي اليوم الموعود اقتحموا البنك وأجبروا الموظفين والمراجعين على الاستسلام، ونهبوا أكثر من مليوني دولار.. لكن الشرطة هذه المرة لم تتعب كثيرًا في القبض عليهم.. الفيلم بطابعه كوميدي ضاحك لا يبحث عن نهايات واقعية، وإنما وضع يده على جرح يتجاهله الكثيرون ويعتبرونه في آخر قائمة الاهتمامات.. 

 

لا تقل معاناة الخارج من دائرة العمل عن الباحثين عنه.. الشاب يتوجس خوفًا من المستقبل المجهول وتضاؤل الفرص أو انعدامها.. الكبير يبدو أكثر ألمًا بعد أن يخرج من دائرة اهتمامات الحياة.. ينتهي دوره ويجلس فقط ينتظر الموت.. وهذا أقسى انتظار..!!

 

التفكير في مرحلة ما بعد التقاعد بحد ذاته مزعج ومؤذٍ ويصيب بالكآبة.. يأخذ الحديث عن عمل الشباب النصيب الأكبر والحظ الأوفر من المساحة المتوفرة بين اهتمامات الناس وفي كل مكان.. العواجيز لا ينتظرهم سوى القليل من التعاطف ودور العجزة وقبلات الرؤوس.. ماذا ستفعل بعد أن تبلغ من العمر عتيًّا، ويشيب شعرك وتصاب عظامك بالتعب والإعياء والوهن..؟

 

حوارات الفيلم الأمريكي الجديد تعطيك انطباعًا بأن المتقاعدين يتشابهون.. الذي يختلف فقط هي الثقافة الاجتماعية.. يقول الأوروبيون بعد الستين تبدأ الحياة.. المتقاعد في العالم العربي يمضي المتقاعد وقته وكأنه في إجازة مفتوحة.. الجلوس أمام التلفزيون ومتابعة الأخبار وقراءة الصحف دون انتظام، والتحول إلى ناقد ومحلل سياسي متى ما وجد آذانًا صاغية، وبالطبع الالتزام تمامًا بالوجبات الثلاث.. الغربيون والأمريكان يؤجلون الكثير من هوايات الشباب التي سرقها الوقت كالسباحة ولعب الكرة والاستماع إلى الموسيقى، والقراءة العميقة حتى يحين الزمن الآخر الذي ينبئ بالنهاية.. هذه سلوكيات أفرزتها تجارب وطبيعة العيش في هذه الدنيا..

 

ماذا ستفعل حين تتقاعد إذا أمدك الله بالعمر والصحة والعافية والنشاط؟

 

هل لديك مخططات وهوايات ورؤية ستتعامل بها مع أصعب وأسوأ مرحلة يمر بها الإنسان؟

 

كيف ستواجه ظروفك وربيع عمرك الذي بدأ يكسو أوراقه الغبار وتتعلق بأغصانه أوراق هاربة من عاصفة قديمة، وتنام على جذوعه العناكب التي أتعبها التنقل والترحال بين كل شيء له علاقة بالماضي والأزمنة العتيقة..؟

 

في زحام مشاغل الحياة المتسارعة ومتاعب الأيام، يبدو التخطيط لمرحلة ما بعد الستين والسبعين ضربًا من الرخاء والرفاهية والمخملية التي لا تعيش إلا بين صفحات المجلات الراقية.. أساسًا مجرد التفكير في تلك الأيام، وكيف ستكون وكيف سنكون يصيب بالهم والغم والاكتئاب.. 

 

هناك مهن لا تعرف التقاعد.. مهن لا تحتاج إلى الجهد والتركيز والقوة.. هذه التي يبدو أصحابها أكثر حظًّا.. 

 

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء..

 

اجلس مع نفسك يا صاحبي وفكر في التقاعد، وإذا استطعت فخطط... إذا كنت مرفهًا وسعيدًا وفي سعة من العيش والرزق فخطط كما يحلو لك.. أما إذا كنت على "قد حالك"، وتتصارع مع كل شيء حولك، فاحذر أن تفكر مثل ما فعل أصحابنا في الفيلم الأمريكي "فالعمر مش بعزأة".. حتى لو بقي منه ساعة أو ساعتان.. لا تقلق كثيرًا.. ستجد لك ألف عمل وألف شغلة.. ستتابع التلفزيون الذي بالتأكيد سيتطور ويتواكب مع وقتك ومزاجك.. وستتجول آخر الليل في المنزل تراقب الأضواء التي لم تطفأ.. قبل أن تطفأ شمعة حياتك للأبد.