|


فهد عافت
الكلمات من قُدَّام ومن وراء!
2017-01-08

الكلمات من قُدَّام ومن وراء!.

 

للكلمات كلماتها!.

 

للكلمات الظاهرة، كلمات خافية.

 

والغموض في الشعر مليحٌ، لأنه سبيل الشاعر لإنصاف كلمات الكلمات، وهو لازم، لأنه لا يمكن منح الخفيّ من القول فرصة حضور، بغير انتزاع شيء من سطوة الظاهر من القول!.

 

لكن وبعيداً حتى عن الشعر، يمكن وبسهولة كشف حقيقة الزيف فيما لو سيطرت الكلمات الظاهرة على ما تقوله هي نفسها لكن في الخفاء!.

 

وهو الأمر الذي يروق للمتغطرسين، في كل مجال، وتعلو أصواتهم، حدّ الشتيمة والإساءات البذيئة أحياناً، بحجّة حب الوضوح!.

 

رغم أنه ما من واضح في غير غموض وشيء من الإلتباس!، أوضح ما في للدنيا غموضها!، وهو الأمر الذي يجاهد أهل الأدب الحقيقي والفن الجميل في إثباته على مر الأيام، خاسرين بذلك كثيراً من توقير المجتمعات لهم، مستقبلين الرماح في صدورهم برحابة تليق بتلك الصدور!.

 

بعيداً عن الشعر، في العبارات العاديّة، في السطور والأقوال التي نقرأ ونسمع كل يوم، يظهر الزيف، وأقل قدر من النباهة، المتوفرة عند الجميع تقريباً، قادر على خوزقة الغطرسة، وكشف الخديعة!، لولا الكسل والخوف والتعوّد عليهما!.

 

لنأخذ أمثلة، ولنضربها ضرباً غير مبرح، فيما لو سمعنا مثلاً تصريحاً سياسياً يقول: "وللفلسطينيين أيضاً حق العيش بكرامة"!، ظاهر الكلمات مُنصف، لكن فيما لو دققنا في مفردة "أيضاً" فسوف ينهار جزء كبير من جدار ومن جدارة التصريح!.

 

اقرأ العبارة مرّة أخرى وتوقف متأملاً في هذه الـ "أيضاً"، تكتشف أنها تُرجع الفلسطيني إلى الوراء في طابور العيش بكرامة!.

 

مثال آخر: حين يكتب أحدهم ديباجة طويلة عريضة، وفي ذيلها نقرأ ".. وبالرغم من ذلك"، فإن هذه الـ "بالرغم من ذلك" تأتي في حالات كثيرة جداً، لإفناء كل ما قبلها!، وفي مرّات أكثر تأتي لتجييش كل ما قبلها لمؤازرة ما بعدها واستعباده!، ولكنها "بالرغم من ذلك!" تظل أهون من "أيضاً" في المثال الأول!.

 

مثال ثالث: أظن أن كل صيغة أمر، من كاتب لقارئ، أو من ناصح لمنصوح، تحمل غطرسة بيّنة، ويمكن سماع قرقعة طبولها الفارغة بسهولة، ما الذي يقوله الخفيّ من الكلمات حين تكون الكلمات الظاهرة: "كن أنت"؟!، الخفيّ هنا يمدّ رأسه ويمكن مشاهدته بسهولة، إنه يصرخ: الكاتب يقول لك أنه هو!.

 

أنه تحرر من كل أثر وتقليد، وتخلص من كل تبعيّة، وصار نفسه، صار هُوَ!، وهو من مكانه الاستثنائي الفريد، المُستحق له، ينظر لك بعين الشفقة، يناديك، لا لتصل إلى ما وصل إليه، لكن لتراهُ في هذه المكانة!، ولتُقرّ له بها!، الذي يقول لك "كن أنت" يقول لك إنك لستَ أنت، وأنه هو فقط هو!.

 

مثال رابع: كيف تكون مبدعاً؟، كيف تكون ناجحاً؟، كيف تكون صالحاً؟، كل عنوان يبدأ بـ "كيف"، هو من نوعية "كن ولا تكن"، و"افعل ولا تفعل"!، تصرخ الكلمات الورائية بحقيقة الكلمات القُدّاميّة: إنما يقول لك القائل إنه مبدع أو ناجح أو شديد الصلاح!، يا لوضوح الميل في مثل هذه الاستقامات!.

 

مثال أخير: كل المشايخ الصالحين والأقل درجة، وأهل الفتوى المُعتبرين والأقل درجة، يضيفون في آخر قولهم: "والله أعلم"، والغالبية العظمى من أتباعهم المتعصبين لرأيهم، فيما لو اقتحموا عوالمك، ينسون هاتين الكلمتين، يتم النسيان حتى فيما لو تم التّلفّظ بهما!.

 

والله أعلم، والله أعلم.