|


صالح الخليف
رجل عاش على جبهتين
2017-08-04

نجحت العملية ومات المريض.. هذا عنوان واقعي وسريع وملخص ودقيق لنهاية أعظم عسكري بحري في التاريخ الحديث الأدميرال هوارشيو نيلسون، الذي أصبح أحد نجوم ذاكرة بريطانيا العظمى.. كثيرون الناجحون في أرشيف العسكرية البرية ومعاجم العسكرية الجوية، لكن البحرية وفرسانها وأبطالها الأفذاذ يبدون نادرين أكثر مما تتخيل.. أمضيت من حياتي زمنًا طويلاً لا أعرف عسكريًّا بحريًّا.. أعرف بيت شعر من قصيدة لم تكتمل، ردده صاحبه متغزلاً بنفسه ورتبته الجديدة قائلاً: "يا بنت شوقك غدا بحري.. عريف ومعلق شريطين".

 

لم تكن البحرية اختيار نيلسون من تلقاء نفسه، وإنما رضخ فقط لتحقيق رغبة شخصية فرضها عليه خاله موريس ساكلينج، الذي كان هو الآخر رجلاً بارزًا ومهمًّا في البحرية البريطانية.. والخال يستحق التقدير والاحترام والطاعة العمياء، ليس عندنا نحن العرب ذوي العاطفة الجياشة، وإنما أيضًا عند الخواجات الإنجليز.. بشرط أن يكون الخال والدًا كما تقول أدبياتنا وعقيدتنا الاجتماعية..!

 

وأهم ما يمكن تناوله والحديث عنه في حياته الصاخبة، هو ذاك التناقض الفاضح ما بين التزامه بالعسكرية الصارمة من جهة، وأهوائه ومجونه وتمرده في علاقاته وسلوكياته وخصوصياته من الجهة الأخرى..

 

كان بطلاً شجاعًا ملهمًا إلى أقصى درجة وأبعد مدى من الممكن أن يصل إليهما العسكريون المغامرون الأشاوس.. كان نذلاً متسيبًا وضيعًا وراء ملذاته..

 

شجاعته تلك ألهمت كل الأوروبيين وسرقت إعجاب المقاتلين في عرض البحر، لدرجة أن كثيرًا من الاستراتيجيات والخطط البحرية بنيت فيما بعد على ما بات يعرف بلمسة نيلسون، وكانت قيادته للجنود مبنية على كثير من المحبة وقليل من السلطة..

 

أسلوب ناعم نجح في أكثر الأماكن حاجة إلى القسوة والشدة والقوة والمتانة.. توفيت أمه وهو ابن التاسعة، وربما لهذه الحادثة انعكاس كبير على مجريات حياته.. لم يكن يهاب الموت..

 

ظل مغامرًا حتى النهاية.. قد يكون رحيل والدته في وقت مبكر ترك داخل أعماقه عدم التمسك والتشبث بالحياة.. تدرج في البحرية منذ التحاقه بها في الثالثة عشرة من عمره وحتى مقتله الأسطوري عام 1805.. تعرض لإصابات كثيرة.. فقد ذراعه اليمنى في معركة جزر الكناري.. فقد إحدى عينيه في معركة النيل.. فقد حياته في معركة الطرف الأغر.. بينما كانت السفن الإنجليزية تقترب من تحقيق الانتصار المهول وتوشك على تحطيم كبرياء نابليون بونابرت، أصر نيلسون على الوقوف في مقدمة السفينة ليشاهد بأم عينه الوحيدة كيف قاد موقعة غيرت مجرى التاريخ تمامًا.. ومنحت بريطانيا السيطرة والسيادة على البحار أكثر من مئة عام.. وقف مزهوًّا ومنتشيًا، فإذا بقذيفة فرنسية تتجه إليه بلا رحمة وتمزق نياشينه التي تزين صدره.. انتصرت بريطانيا ومات نيلسون، وقال الملك جورج الثالث: "خسرنا أكثر مما ربحنا برحيل نيلسون".

 

 

هذا ما حدث في الحرب وفي البحر.. في الحب وفي اليابسة شيء آخر.. غرق نيلسون في الملذات والشهوات المحرمة وأدمن الخمور.. غرق في غرام الليدي هاملتون زوجة السفير البريطاني في إيطاليا، ودخل معها في قصة عشق سافرة.. لم يتذكر زوجته وزوجها وحقوقهما، ولم يتذكر مكانته وأهميته وموقعه القيادي والعسكري المهم والحساس.. أنهكت المسكرات قواه كما فعلت نيران المدافع والرصاص بجسده.. قبل موته بأيام كان يعرج ويبتسم وقد تهشمت أسنانه وعينه مثقوبة.. حتى قالوا عنه: "كومة عظام في بدلة عسكرية".. كان يقاتل على جبهتين.. يقاتل أعداءه وأعداء بريطانيا على الماء.. ويقاتل نفسه على بحر الهوى.. ومات..!!‏