|


صالح الخليف
إعلان غير مدفوع الثمن
2017-08-11

الإعلان الذي لا يقدم لك المتعة لا يستحق الاحترام والتقدير.. المصداقية أمر مفروغ منه.. أقصد ليس أمرًا ضروريًّا وجوهريًّا؛ فلو طلبت المصداقية من الإعلانات لخوت أسواق الإعلانات التجارية على عروشها.. 

 

وعلى قولة عادل إمام: "لو كل واحد عزّل عشان تحتيه رقاصة.. البلد كلها حتنام في الشارع"..!! الشيء الوحيد الذي لا تصدقه ولا أحد يلومك أو يعاقبك أو ينتقدك هو الإعلان.. هذا تعريف للإعلان بطريقة شعبية عابرة وسريعة كما هي الوجبات السريعة.. 

 

أما إدجار شوآف فيقول بشكل أوضح وأعمق وأشهى: "الإعلان هو فن اختلاق أكاذيب كاملة من أنصاف الحقائق".. التعريفان متشابهان، لكن كلام إدجار كالذي يستعد للذهاب إلى حفلة تضم أبرز وأثرى رجال الأعمال.. أما كلامنا نحن فهو كرجل يسير على الرصيف بقدمين حافيتين أضناهما التعب من كثرة المشي وحرارة الأرض في منتصف أغسطس..!!..

 

يقول التاريخ إن فكرة الإعلانات ليست حديثة، وإنما تعود لتلك الأزمنة الغابرة؛ فالمصريون مثلًا استخدموا ورق البردي لكتابة رسائل عن الخصومات.. بدأت الإعلانات في الظهور على صفحات الجرائد منذ القرن الثامن عشر، واستمرت السجائر أكثر الإعلانات رواجًا لمدة تناهز الثمانين عامًا..

 

ويقال أيضًا إن صحيفة لابريس الفرنسية أول من لجأ إلى الإعلانات المدفوعة وذلك عام 1836، وهذه الخطوة ساعدتها على الانتشار بقوة، عقب قرار مجلس إدارتها بتخفيض سعر النسخة.. أما الإعلان الذي تقول الأرقام بأنه الأغلى فالأسهم تتجه صوب شركة شانيل التي تعنى بالموضة والعطور والحقائب الفخمة.. وكلفها الإعلان ثلاثة وثلاثين مليون دولار، أي ما يتجاوز مئة مليون ريال سعودي، وحصلت الممثلة الأسترالية الشقراء نيكول كيدمان على ثلاثة ملايين دولار نظير ظهورها في ذلك الإعلان الباهظ.. شركة بيبسي تعد واحدة من أقوى الشركات التي تصرف على إعلاناتها السنوية، فقد استعانت عام 2002 بالمغنية الأمريكية بريتني سبيرز وتجاوزت تكاليف الإعلان الثمانية ملايين دولار. 

 

واستمرت سوق الإعلان في النمو والازدهار بشكل متسارع طوال العشرين عامًا الماضية.. يقال إن منطقة الشرق الأوسط تجاوز فيها الإعلان في العام 2011 المليار دولار.. الإعلانات مثل وجوه الناس فيها الذي تحبه من أول نظرة.. وفيها ذاك الذي تتوخى الحذر منه.. وفيها ذاك الذي تكرهه ولو كنت مجرمًا لقتلته.. والإعلان بالطبع يختلف من مجتمع إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى.

 

يقول الأمريكان: "السمعة أهم من الحقيقة".. والسمعة الحسنة أحيانًا تكتسبها من الإعلان في بلد مثل أمريكا.. لدينا نحن ـ بني العرب ـ نصغي بأسماعنا لأصدقائنا وأهلنا وأقربائنا ومن ملكت قلوبنا.. نتركهم يقدمون الإعلانات المجانية عن كل شيء.. عن السفر وعن المطاعم وعن الملابس.. ثم نهيم على وجوهنا وعلى طريقهم.

 

ثقافتنا السمعية هي السبب.. نصدق ما نريد.. ونكذب ما لا نريد.. الحكاية طويلة وتحتاج إلى شرح مفصل.. وليس الموضوع قاصرًا على الإعلان فقط... لكن حكايتنا الآن الإعلان.. هناك إعلانات لها مدلولات نفسية عكسية وسلبية.. مثلًا المطاعم تركز على كلمة "الضيافة"، وكأنك ستجدهم في استقبالك كما يُستقبل الأبطال المنتصرون والقيام بواجبك.. كأنهم سيقدمون لك العشاء على الرحب والسعة.. وليس على حسابك!!..

 

الخطوط السعودية تمشي في ذات السياق.. تقول في شعارها وإعلانها "نعتز بخدمتكم".. وكأن المسافرين سيجدون خدمة خمس نجوم دون أن يدفعوا ريالًا واحدًا.. يقطع الناس تذاكرهم ويحددون وجهتهم، ويضع كل منهم قدمًا على أخرى، متوسدًا أحد مقاعد الدرجة السياحية مستمعًا لمذيع الطائرة الداخلي، بعد فراغه من قراءة الديباجة المسجلة.. ثم يلتفت المسافر إلى النافذة ويرى تفاصيل الأرض تبتعد عن تمييزها، ثم يقول منتشيًا ردًّا على المذيع وعلى الخطوط وبصوت خفيض يختفي وراء أزيز الطائرة.. يرد بكلمات نزار قباني: "بدراهمي لا بالحديث الناعمِ".. يسبح خلف هواجس وينتظر هبوط الطائرة في وجهتها الجديدة، ويتذكر مرة أخرى شعار "نعتز بخدمتكم"، ويقول ما قاله جاك سيجولا: "أرجوك لا تقل لأمي إنني أعمل في مجال الدعاية؛ فهي تظن أنني أعزف البيانو في ملهى ليلي". 

 

بعض العزف مزعج، لأنه يشبه صوت الطائرة..!!