|


فهد عافت
تَجَرّأ..!
2017-11-26

 

 

 

كنت أقرأ كتابًا لكونديرا، لحظة وصول صديقي الشاعر والباحث والقارئ الفخم إبراهيم الخالدي، بعد التحيّة وكلمات قليلة أُخرى، قال لي: لم أقدر على هضم كونديرا، أضاف: ولا إمبرتو إيكو.. بالذات إمبرتو إيكو!.

 

ـ فيما يخص إمبرتو إيكو شاركته الرأي، وهو رأي عاطفي على أيّ حال، قلت: نعم هو ثقيل، وليس في جملته طرافة، لكني أقرأه لأنه جزء من الخريطة!، ولم أتحدث عن كونديرا كثيرًا، رغم أنني من المفتونين به!.

 

ـ ليس هذا هو الموضوع، لكنني وجدته مقدِّمة بسيطة ومناسبة له، الحديث عن القراءة، تحديدًا عن الأحبة ـ اللهم زد وبارك ـ الذين يطلبون مني، أو من غيري، توجيهًا نحو كتاب معيّن أو كاتب محدّد، أو أولئك الشباب الذين يسألون بخصوص القراءة: من أين نبدأ؟!

 

ـ لا يمكن لي، ولا لغيري فيما أظن، النصح بكتاب أو كاتب بشكل محدّد لقارئ بشكل محدّد!،.

 

ـ كل ما يمكنني فعله الحديث عن الكتب وعن أهمية وجمال ومتعة وفائدة القراءة، وأنْ يكون هذا الحديث عامًّا، لكل الناس، لا لشخصٍ بعينه، وظنّي أنّ النصيحة لشخص بعينه جريمة أو مشروع جريمة!،.

 

ـ سبق أن قلت: مثل هذه التوجيهات تشبه وصفة طبيب لمريض لا يعرفه ولم يسبق له جَسّ نبضه!، وأكرر: فما بالكم بـ "تمرجي" مثلي؟!

 

ـ أحيانًا، تنصح بكتاب، فتكون النتيجة أنّك أسأتَ لفن القراءة، وأسهمتَ في أن يُوصِد قارئٌ الباب في وجه القراءة!، 

 

ـ يتبع نصيحتك فلا يجد الكتاب قريبًا من قلبه، ولا ممتعًا له، لأي سببٍ كان، لأنّ الكتاب كذلك فعلًا، أو لأنّه يشعر أنّه كذلك، وكثيرًا ما يكون السبب في التوقيت، وأنّه قرأ كتابًا في غير وقته، وقد كان عليه أنْ يقرأَ قبله مجموعة من الكتب المُوصِلَة إليه!.

 

ـ أتذكّر حكاية ودرسًاً من أستاذي سليمان الفليّح ـ رحمه الله، الرجل الذي تبنّاني أدبيًّا بمعنى الكلمة، قال لي: اقرأ لأدونيس، وكان "أبوسامي" يخصّني بمحبّة وثقة، فإنْ قال اقرأ، سألني قبل مرور أسبوع: هل قرأت وكيف وجدت ما قرأت؟!.

 

ـ قرأت لأدونيس "كتاب التحوّلات والهجرة في أقاليم النهار والليل"، وحين سألني أستاذي قلت: لمْ أجد متعةً ولمْ أفهم شيئًا تقريبًا!، وسليمان الفليّح لا يكون قاسيًا أبدًا أمام ضعيف أو جاهل، كان ـ رحمه الله، شديد الشراسة مع المتنطّعين فقط!.

 

ـ قال لي: قفزتَ، خذ المجموعة الكاملة لأدونيس، وأقرأه من جديد، ابدأ معه من حيث بدأ، من مجموعته الشعرية الأولى ثم استمِرْ. فعلتُ، وفي الأسبوع التالي سألني فأجبت:

 

ـ قرأت المجموعة الكاملة، طرتُ فرحًا بموسيقاه، دخل قلبي بسرعة عجيبة، والطريف يا أستاذنا أنني مررت على "كتاب التحوّلات" وكأنني أقرأه للمرّة الأولى، وعجبت كيف لم أستمتع به من قبل!، قال: لأنّ لأدونيس كلمات محدّدة مثل "الماء" و"النار" و"الينبوع" و"الشمس"، بدأ بها ثم أخذ يحفر فيها حفرًا، ويتعمّق، ويتجذّر، ويتمدّد، إلى أنْ صار من الصعب على قارئ جديد، قراءته، دون الرجوع إليه من نقطة البدء!.

 

ـ لستُ أستاذًا، ولا أرتقي لأبوّة سليمان الفليّح، لأتابع حركة قارئ، وحتى إنْ حاولتُ فلا يمكنني فعل شيء إلّا مع قارئ أعرفه تمام المعرفة، وهذه استثناءات نادرة، وخاصّة جدًّا، وغير قابلة للتعميم!.

 

ـ إذا كان قارئ مثل إبراهيم الخالدي، وهو قارئ أكثر وأعمق وأهم منّي، بالإضافة إلى أنه صديق مُقرّب، لمْ يتفق معي حول كاتب أو كتاب، فما بالك بمن لا أعرف من الناس؟!

 

ـ كل ما يمكنني قوله بالنسبة لكل من يريد القراءة: تجرّأ، وانقضّ على كتبك انقضاضًا، لا تهتم لرأي أحد، ولا تنتظر من أحد توجيهًا، اقرأ، انطلق وتعثّر وانهض وأكمل طريقك بطريقتك وعلى هواك!.